نتناول في الجزء الثاني من هذا الكتاب، تسع عشرة سورة (من السورة العاشرة إلى السورة الخامسة والعشرين)، وهذا ما يغطي تقريباً الثلث الثاني من القرآن. وهذ الجزء متابعة لمشروع يدرس القرآن: لغةً، ومضمونًا، وتاريخًا. والكتاب يحتوي على الأقسام التالية: القراءات (محمد المسيِّح)؛ الناسخ والمنسوخ، والتحليل النقدي (مالك مِسلماني).
تطوير في القراءات
يعكس تطور القراءات وتعددها التعدد في المصاحف، كما يكشف عملية الصراع في قلب السلطة الدينية والسياسية للإسلام من أجل توحيد النص القرآني وإنتاج نص رسمي؛ وبالتالي، فإن القراءات تكتسب أهمية خاصة من حيث كونها الحقل الذي يكشف عدم وجود قرآن واحد، لا بل إن القراءات تكشف أنه على مدى تاريخ الإسلام لم تتمكن السلطات الإسلامية من اعتماد نسخة مرجعية واحدة.
بما أن للقراءات أهمية عالية، كان لزاماً علينا تطوير معالجتها بالكتاب، وذلك بإضافة المنهجية التالية:
- توسيع نطاق المراجع لتشمل المخطوطات؛
- اتباع مقاربة مختلفة في معالجة مادة القراءات.
لماذا الاختيارية في التعليق على الآيات القرآنية لعل بعض القرّاء سيتساءلون لماذا لا يعالج الكتاب كامل الآيات القرآنية، بل اكتفى بمعالجة انتقائية: الانتقائية في تناول هذين البندين فرضه الكم الكبير للروايات في المصادر، ولو بُسطت كل المادة المتوفرة في المصادر الإسلامية لتضاعف حجم كتابنا مرات عدة، ولهذا بعد أن تم دراسة كل المادة المتوفرة وغربلتها. وقد تمت عملية اختيار البيانات للكتاب على مبدأين:
- أولاً، تمثيلي، إذ تقوم العناصر المختارة بتمثيل كل المادة؛
- ثانيًا، إن كل العناصر المهمة والضرورية للبحث الموضوعي تم أدارجها واستقصاؤها في كتاب «القرآن تحليـلٌ وبيـان».
عندما تكون الانتقائية قائمة على هذين البندين، ويتوثق من أن كل الروايات بُحثت ودُرست علمياً، المواد بشكل موضوعي، وبعيداً عن خطر السقوط في التحييز أو الذاتية. على مدار صفحات الكتاب سوف يلاحظ القارئ وجود ملاحظات تحمل حكم قيمة في كل أقسام الكتاب، ولعل بعض القراء سيطرح سؤالاً: ألا يبعد أيُّ حكم قيمة الكتابَ عن الموضوعية؟ في الحقيقة، الموضوعية في البحث الاجتماعي لا تعني عدم تقييم أحداث التاريخ. فالتاريخ يقوم به فاعلون بشريون. وحينما ندخل مجال التاريخ البشري، فإن الباحث إذ يحلل التاريخ ويتناوله، فإن عليه أيضاً أن يقيّم الفاعلين به، ولكن بشرط أن يكون التقييم حسب معايير عصر الشخصيات قيد الدَّرس؛ ولهذا، حيثما يقرأ القارئ حكم قيمة في كتابنا، فإن الهدف منه هو إعطاء قيمة الحدث في حينه، فلم نطبق معايير العصر الحديث، بل أي تقييم موجود في الكتاب يعتمد على ما هو موجود في القرن السابع الميلادي، عصر الدعوة المحمدية، فعندما يتناول الباحث الآية 3 من سورة التوبة التي تخيّر المشركين إما قبول الإسلام وإما الحرب، فهل يمكن ألا يعبر عن موقف نقدي بناءً على معايير العصر الذي عاش فيه محمد؟ لا بل عما هو سائد في نفس مدينة محمد ـ مكة، حيث كان المشركون يتقبلون مبدأ تنوع الإيمان ولم تنشأ فيما بينهم حروب على مبدأ ديني. وهل يمكن للباحث أن لا يعلق نقدياً على منح الرجل حق ضرب زوجته (النساء 4: 34)؟ إن أمثال المعايير التي تدخل في صميم العلاقات الإنسانية لا يمكن تناولها بدون حكم قيمة. وأي كتابة تتناول الإنسان والمجتمع يجب أن يكون فيها حكم قيمة على هذا الموقف أو ذاك السلوك، وأي تخل عن تقييم التاريخ، هو لاموضوعية، بل حتي عدم صدق مع الذات والقارئ. الموضوعية تفترض أن نحكم على الفاعلين ضمن عصرهم. والحياد لا يعني السلبية في تفسير الأحداث، أو تجاهل تقييم الحدث التاريخي، أو عدم توصيف البشر الفاعلين بصناعة التاريخ: ديكتاتور، مصلح، معادي للإنسانية، إنساني، وغيرها من التوصيفات. إن دور الإسلام في الحياة الاجتماعية للمسلمين كبير، ودوره في الميدان الدولي شديد الأهمية والخطور سواء عبر تأثير الدول الإسلامية في مجال السياسة الدولية والوزن الديمغرافي والمالي لها، أو عبر حضور جاليات كبيرة مسلمة في العالم الغربي. إن هذا الحضور للإسلام في العالم المعاصر يجعل كتابنا (بأقسامه ودراساته المختلفة) ذا أهمية كبيرة للقارئ المعني بمعرفة المزيد عن الإسلام، وأيضاً، للقارئ المهتم بفهم العالم المعاصر والسياسة العالمية من خلال معرفة المزيد عن محور الإسلام ـ ألا وهو القرآن.